الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

الحج في موسم الثورات


الحج في موسم الثورات


د.مصعب أبو عرقوب
"تواضعت ‏الجبال... لدعوة ‏الخليل ‏إبراهيم ‏عليه ‏السلام ‏حين ‏انتهى ‏من ‏بناء ‏البيت ‏العتيق ‏ونادى ‏الناس ‏لحج ‏بيت ‏الله ‏الحرام‏، حتى ‏بلغ ‏الصوت ‏أرجاء ‏الأرض فأسمع ‏نداؤه ‏من ‏في ‏الأصلاب ‏والأرحام ‏فأجابوا ‏النداء ‏‏"‏لبيك ‏اللهم ‏لبيك"، ليتقاطر الناس إلى مكة المكرمة من كل فج عميق في "استجابة الروح لله الذي نفخها من روحه فصار الإنسان إنسانا. وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه, وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم".

فالإسلام يجمع البشرية على عقيدة واحدة تحررها من كل عبودية لغير الله، وعقيدة التوحيد إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وثورة عالمية على العبودية لغير الله، وتحرير للإنسان من كل عبودية لغيره من بني الإنسان، وتحريره من الخضوع للجهل والشعوذة وتسلط "رجال الدين- حسب تسمية أهل الديانات الأخرى"، وإغواء الشهوات، وكسر لكل قيود الهرطقات والتمتمات، وإطلاق لطاقات البشر ليسيحوا في الأرض إعمارا واكتشافا لقوانين الخالق ونواميسه في الكون.

فالثورة التي أعلنها الإسلام وجمع عليها البشرية، ثورة على كل أنظمة الحكم والدساتير التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر، وعبودية الإنسان للإنسان، هدفها ابتداءً إزالة كل تلك الأنظمة والدساتير والعصابات الحاكمة، ليحكم البشر بنظام تكون قاعدته العبودية لله في ظل تطبيق شرعه، وبعد إزالة تلك المعيقات والقيود التي تكبل البشر وتقيدهم،،، يصبح البشر أحرارا بالفعل في اختيار عقائدهم بعيدا عن تأثير الرأسمالية ووحشية جيوشها وجشع شركاتها التي أغرقت الشعوب الفقيرة في عالم من العبودية.
عبودية.. جاء الإسلام بأفكاره ومشروعه الحضاري ليحررهم ويخرجهم منها إلى عدل أنظمته وروحانيتها، فَََنَظّمَ الإسلام العلاقات بين بني البشر على أساس بشريتهم، لا فضل لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، الغني والفقير سواء أمام الأحكام الشرعية، الوزير والغفير سواسية أمام القضاء، الكل سواسية أمام الدستور، ولا اعتبار لعرق أو طائفة أو اعتقاد، فالكل أمام أحكام الشرع المطبقة في دولة الاسلام  "رعايا" يحملون التابعية بغض النظر عن دينهم أو عرقهم فالكل سواء.

سواسية لا فرق بينهم... وهو المعنى الذي يجسده الحج، فترتسم في مناسكه لوحة تليق بالبشرية، فالكل في الحج متحررون إلا من الخضوع لأنظمة دقيقة فرضها الخالق، وبينها رسول هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والتسليم، يجتمعون رغم كل  الفروقات في اللغة والعرق والمظهر ليشكلوا هوية راقية تبتعد عن وحول العنصرية والطائفية والمادية والمصلحة التي تعمي القلوب وتسحق الشعوب، هوية تتجاوز حدود الجغرافيا وتقسيمات سايكس بيكو ونفوذ الأجانب في بلادنا... هوية تعيد كل عام للأمة ذاكرتها... وتلهب في موسم الحج من جديد ثورتها، وتحدد معالم ربيعها المنشود.

فالربيع "العربي" أعاد مفهوم الأمة الإسلامية لموقع الصدارة الجدي.ر بها، فالربيع لم توقفه حدود سايس بيكو اللعينة، وتنقل بين بلدان الأمة الإسلامية لينظم شعوبها في ثورة تغييرية تناولت نفس الشعارات، وأطلقت ذات الآهات والأنات، وخرجت تلك الشعوب لتعبر عن ذات الألم والأمل في التحرير و الإنعتاق من هيمنة المستعمر وأتباعه، خرجت لتتنفس عبق المجد المسلوب والانتصارات الموروثة، خرجت تنشد عدل الفاروق وعزة هارون الرشيد في مراسلته لأعداء الأمة، خرجت باحثة عن صلاح الدين في ميادين التحرير، في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا، خرجت تبحث عن مصدر قوتها وعزتها وانتصاراتها... خرجت لتعيد حضارتها إلى حيز الوجود... خرجت لتعيد أمجاد الأمة.

فالأمة الإسلامية وعبر عقود من التجزئة والتفكيك ومحاولات التذويب في سوائل الإقليمية والطائفية المائعة، عادت لتستشعر وحدتها وارتباط أعضائها ببعض، وكان الحج دوما يحمل تلك الرسالة ويجسدها لكل شعوب الأمة الإسلامية في مؤتمره السنوي الحاشد، ليؤكد على أنّ حالة التفكك والتشرذم التي تعيشها الأمة الإسلامية حالة غير طبيعية لأمة عريقة حكمت العالم ونشرت عدل مبدئها بين شعوب الأرض، فغياب دولة الخلافة الجامعة للأمة يعد استثناءً قبيحاً في تاريخها المليء بالانتصارات والتقدم والتربع على عرش الحضارات والأمم، والحج إذ يعيد لكل مسلم هذه المعاني السياسية الراقية... يصبح موسما للوخز بالإبر لكل من يحمل طرحا وطنيا إقليميا ضيقا لشعوب الأمة الإسلامية.

فلا يجد أصحاب الأطروحات الوطنية المفصلة على مقاس حدود سايكس بيكو الاستعمارية لهم مكانا في موسم الحج، ولا تجد دعوتهم في "إعادة تشكيل الهوية الوطنية للشعوب بعد الثورات" أي صدى لدى أمة بعثت كل قرية صغيرة نائية فيها ممثلا أو أكثر عنها إلى مؤتمر الحج الأعظم، ليعود ويقص بشوق وحرقة ما شاهده من اجتماع المسلمين من كل الأجناس والأعراق، ويعبر ببساطة شديدة عن ضرورة اتحاد هذه الأمة في كيان واحد يجمعها، فكل الحجيج تعود بالدعاء بالوحدة والتمكين للأمة، وتضع المفارقات والتناقضات في ميزان بسيط، لتخرج بنتيجة مفادها... أنّ الحل لمشاكل الأمة فقط يكمن في الوحدة ولم الشمل في دولة للمسلمين واحدة، يحكمون فيها بشرع الله .

وبذلك التصور الذي يجسده الحج كل عام تدخل الأمة في طور جديد من ثورتها، لتسقط كل الأطروحات الإقليمية والوطنية الضيقة التي ثارت عليها الأمة، والتي شكلت حاجزا منيعا لعقود أمام الأمة وأمام انبعاثها من جديد، فالأنظمة المهترئة وما خلع من قياداتها كانت دوما الحارس الأمين لمصالح المستعمرين وأطماعهم في بلادنا، وكانت حدود تلك الأنظمة هي السياج الذي يمنع الأمة من التوحد والوقوف أمام المستعمر، والقيود التي تمنع الأمة من التحرر وتفعيل مشروعها الحضاري المتمثل في إقامة دولة الخلافة.

فالمشروع الحضاري للأمة الإسلامية لا بد له من إزالة تلك الحدود الاستعمارية التي تقيد الأمة وشبابها وتنهب ثرواتهم وتمزق طاقاتهم، فلا نهضة لمصر بدون السودان، ولا أمن لسوريا بدون تركيا، ولا عزة للجزائر بدون المغرب، ولا غنى للحجاز عن اليمن، ولا تحرير لفلسطين بدون الأمة الإسلامية، ولا صون لحضارة المسلمين ومقدساتهم وأعراضهم إلا بوجود كيان واحد يجمعهم... في دولة الخلافة، وبذلك لا يبقى مكان لدعاة الوطنية والإقليمية الضيقة بين دعاة النهضة والتغيير والثورة على الاستعمار والتبعية.

والثورة على الاستعمار والسعي للتحرر نقيض التبعية والتقيد بما أفرزه الاستعمار وفصّله على مقاسه ومصالحه في بلادنا، ولا منطق يبرر التشبث بحدود رسمها المستعمر  إمعانا في تقسيم الأمة وتجزئتها... إلا رغبة فلول الأنظمة المهترئة في تكريس وجود الاستعمار وتثبيت أركانه في بلادنا، والإصرار المفضوح على التبعية والدونية أمام المستعمرين من قبل "المعتدلين"، ليكتمل المشهد بإعلان الفلول والمعتدلين الحرب على كل الثائرين في ميادين التحرير،  وتجريم كل من يتخطى بتفكيره ومشروعه تلك الحدود المصطنعة ليشير إلى مشروع الأمة الوحدوي المتمثل في إقامة دولة الخلافة، وبذلك دخل "أصحاب الطرح الوطني الإقليمي الضيق" ومن شايعهم من "الزعماء الجدد " في تناقض مكشوف مع  أبسط معاني الثورة.

فالثورة في أصدق تجلياتها لا تعني إلا التحرر من كل القيود القديمة التي كبلت الأمة ومنعت نهضتها وكرست تبعيتها وعبودية قادتها للغرب، فدعاة إعادة تشكيل الهويات الوطنية للشعوب الثائرة يطرحون تكبيل الأمة الثائرة من جديد بتلك الحدود "الوطنية" التي أنتجها المستعمر وحافظت عليها مافيا العصابات الحاكمة في عالمنا الإسلامي، وهو طرح يتوافق مع مصالح المستعمرين الذين باتوا يلمسون صحوة الأمة وشوقها لاستعادة وحدتها ومكانتها بين الأمم، ويتعارض ذلك الطرح مع ثوار الأمة وحجيجها... وكل ما تعتقده الأمة من معتقدات.

فالحج ركن الإسلام الخامس... في كل عام ينعقد ذلك المؤتمر المليوني في أطهر بقاع الأرض وفي أفضل الأزمنة، ليضم المسلمين بين جناحيه، يذكرهم... ويرفع من هممهم، ينظمهم في سلسلة حضارية تخترق العقول والقلوب ولا تقف أمامها الحدود والأسيجة، لتعلن لكل أولئك المضبوعين بالثقافة الغربية والوطنية الإقليمية... لتعلن لهم أنّ أمة الإسلام أمة واحدة من دون الأمم، وأنّ انتظامها في الحج فريضة،،، وانتظام عقدها في دولة واحدة... دولة الخلافة فريضة أيضا... وإلى أن تعيد الأمة تفعيل مشروعها الحضاري وتعيش في تلك الدولة التي تحكم فيها بالإسلام وأنظمته... إلى... أن تعلن إقامة الخلافة، إلى أن يكون ذلك... سيبقى الحج في موسم الثورات،،،،،،
 وسيكون لزاما على الثورة أن تستمر.
د.مصعب أبو عرقوب
29-6-2012

الأحد، 21 أكتوبر 2012

دكتاتورية " الأقلية الديمقراطية"


دكتاتورية " الأقلية الديمقراطية"

د.مصعب ابو عرقوب
تغيرت مفردات النقاش بعد الربيع العربي لتطال مصطلحات عميقة كالدستور وشكل الدولة والأغلبية والأقليات  وغيرها من المصطلحات الجديدة، لتعكس بذلك حالة الحراك الفكري التغييري الذي يجتاح الأمة التي سبقت بتحركها وعراقة أفكارها المتجذرة في صدور شعوبها كل المتحذلقين والمضبوعين بالثقافة الغربية البعيدة عن أصالة الشعوب التي تحركت في ميادين التحرير تستنشق عبق مجد وتحرر افتقده عبر عقود التبعية العجاف، لتنفث الجماهير  بهتافات "ارفع رأسك" و "علي صوتك" حمما تعبر بها عن اعتزازها بنفسها واستعادة ثقتها بشبابها وقدرتها على التغيير وصناعة مستقبل واعد.
وبتلك الهمة العالية والثقة بثقافتها وصلاحية مبدئها كدستور ونظام حكم وطريقة عيش تختلف عن الغرب ، انتخبت تلك الشعوب الثائرة من قدموا أنفسهم على مر السنين  بأنهم يريدون تطبيق الاسلام وإعادة الحياة الاسلامية بنظمها وتشريعاتها وعدلها وعزتها إلى حيز الوجود عبر إقامة دولة إسلامية ، وانحازت شعوب الربيع العربي بمشاعرها الإسلامية النبيلة إلى من أحسنت بهم الظن ليوصلوها لذلك النموذج الذي يسكن عقول وقلوب الشعوب في بلادنا ، نموذج يتطابق مع أصالة افكارها وعراقتها ويؤرخ لمجدها وعزها ،فاختارت الشعوب الإسلاميين وانتخبتهم لتوصلهم الى سدة الحكم بأغلبية ساحقة .
أغلبية احتار دعاة الديمقراطية في تسميتها ووقفوا أمام "ديليما"... أومعضلة محرجة،  فإما أن يعلنوا عدم رضاهم بخيار الشعوب وفي ذلك  "كفر بالديمقراطية "التي يدينون بها ،أو يستسلموا لخيار أمة تريد العودة لمبدئها فتذوب الديمقراطية وتنتهي في بلاد الإسلام .
وفي خضم ذلك الحراك الفكري  وقف دعاة الديمقراطية ليعلنوا أن الأغلبية التي انتخبت الخيار الإسلامي  " أغلبية غير ديمقراطية " فلا يجوز لها أن تفرض خياراتها على بقية الشعب وعلى الأقلية التي وبنفس المنطق ينطبق عليها تسمية " الاقلية الديمقراطية " ، وبذلك تناقض دعاة الديمقراطية مع أس مبدئهم وانقلبوا على ما يعتقدون به من أحقية الاغلبية في الحكم " وسن القوانين " وفرض طريقة معينة من العيش ترتضيها الأغلبية لنفسها ، وأصبح في منطقهم الدكتاتوري التسلطي فرض رؤية " الأقلية الديمقراطية " طريقة عيش على الأغلبية هو عين المنطق و التحضر و الطريقة الوحيدة للتقدم والنهوض.
طريقة تريد تلك "الأقلية الديمقراطية" فرضها على الأغلبية التي تؤمن بطريقة اخرى للعيش و وضعت خياراتها وأمانيها  في صناديق الاقتراع علها توصل  تلك الأماني في التحرر و الانعتاق من التبعية للمستعمرين إلى موقع القوة والتنفيذ، فالإسلام كطريقة عيش تتناقض في جوهرها ومضمونها وتجلياتها مع الأفكار الديمقراطية التي تجعل التشريع للبشر وتطلق العنان للشهوات والتفلت والشذوذ تحت مسمى الحريات الشخصية.
حريات قيدها الاسلام بالأحكام الشرعية التي تشكل منظومة راقية تصاغ ضمنها حياة الأمة وأسلوب عيشها بما يضمن صلاح الفرد والمجتمع على حد سواء  ، فطريقة اللبس والإحتشام والزواج والأحكام المنظمة للأسرة  والميراث والنفقة وأنواع الملكية وأسبابها ، وشكل الدولة وأجهزتها ومناهج التعليم فيها ، وسياستها الخارجية والداخلية وعلاقتها بغيرها من الدول،وتوزيع الثروات على الأمة ،وكيفية استعادة الحقوق وتحرير الأرض والمقدسات ،وحمل الإسلام رسالة للعالم ..كل ذلك مقيد بنظام خاص منبثق عن عقيدة الأمة ومبدأها ،ذلك الإسلام هو الذي تريده الأمة وهو الحصن لهويتها والحامي لعقيدتها وأفكارها وقيمها، ذلك مطلب الأغلبية وصوتها الذي عبرت عنه في الإنتخابات بعد الثورات .
 إلا أن الغريب أن صوت تلك الأقلية الديمقراطية كان أقوى وأكثر نفوذا من صوت أغلبية الشعب ، فالإعلام تهمين عليه تلك الأقلية " الديمقراطية " ،والعسكر لا يفكر إلا في خياراتها وحماية مشروعها المتمثل في " الدولة المدنية " والوصاية على " صياغة الدستور " وحفظ حقوق تلك الأقلية ، و " الزعماء الجدد"  الذين أفرزتهم تلك الانتخابات انقلبوا على "الأغلبية غير الديمقراطية " أي على خيارات الأمة التي انتخبتهم ، وأصبح جل همهم إرضاء  تلك الأقلية والإنصياع لإملاءاتها والتعهد لها بان الأغلبية غير الديمقراطية بل والأمة كلها ستعيش على الطراز الذي تحدده تلك الأقلية المتنفذة والقوية لدرجة الدكتاتورية والتسلط.
تلك الدكتاتورية و ذلك التسلط الذي اكتسبته  " الأقلية الديمقراطية " عبر عقود من علاقة آثمة مع الأنظمة السابقة  التي كانت تشاركها الحكم والمناصب والثروة و مراكز النفوذ وتشكل فريق المعارضة الدستورية للنظام في اللعبة الديمقراطية لإضفاء الشرعية على النظام وأهله من الطغمة  الحاكمة .
 وتعدى دورها في أواخر عصر الأنظمة المنهارة حتى أصبحت "الخيار الديمقراطي" للغرب المستعمر بعد احتراق الأنظمة المتهالكة أمام شعوبها ، فكانت تلك الأقلية الديمقراطية بما تجسده على الأرض من مؤسسات مجتمع مدني ومراكز بحوث وتجمعات شبابية ونواد اجتماعية كانت بمثابة عصى بيد المستعمر الغربي مسلطة على تلك الأنظمة والزعماء لضمان تبعيتهم للغرب من جهة والإحتفاظ بالخيار الديمقراطي من جهة أخرى كورقة لاستبدال ما احترق من أوراق الأنظمة والزعماء التابعين لها .
وباحتفاظها بتلك العلاقة المزدوجة مع الأنظمة والغرب أصبح لتلك الأقلية نفوذ خشيته الأنظمة وتفانت في إرضائها ،  ذلك لأنها البديل إن هبت رياح التغيير ،وعصى بيد الغرب يلوح بها دائما ،فهي تعيش في كنف ثقافته وتحت حمايته وتموليه ،وهي ليست "إرهابية" فلا يستطيع أن يصفها النظام بالتطرف والأصولية ليعتقلها أو يقتلها أو يقمعها ويجفف منابعها إن ضجت في وجهه وعارضته  في مسرحيات المعارضة واعتصاماتها وكثرة انتقاداها  فتلك الأقلية  وقبل كل شيء... ديمقراطية !!.
ديمقراطية...وهي ذات الكلمة السحرية التي جعلت لتلك الأقلية نفوذا حتى بعد سقوط تلك الطغمة الحاكمة ،  فالنظام لم يسقط وبقي ديمقراطيًا ، ومن وصل للحكم بالأغلبية تنكب لها وخاطب ود الغرب المستعمر الذي ما زال متنفذا في بلادنا عبر بعض رجاله في المؤسسات العسكرية والجيوش وعبر ما وضعه من أنظمة " ديمقراطية " تضمن بقاء رجاله وتابعيه في السلطة.
  ولم يجد" الزعماء الجدد" المنتخبون  قناة لمغازلة الغرب إلا عبر ذلك البديل للأنظمة  الذي صنعه وجهزه عبر عقود في بلادنا متجسدا بتلك الأقلية الديمقراطية، فعادت تلك الأقلية  لتفرض وبشكل دكتاتوري قبيح مشروعها الغربي وارتباطها السياسي والاقتصادي بالغرب المستعمر لتشكل استنساخا مفضوحا للأنظمة التي ثارت عليها الشعوب وملاذًا أخيرا لربط بلادنا بالمستعمر الغربي الطامع .. في تجاهل واضح لرغبات الأغلبية و شوقها في الانعتاق من كل تبعية وارتهان للمستعمر .
وأصبحت الأغلبية بذلك المنطق  غريبة مُخَطّأةً في خياراتها ،فالحرية و الإنعتاق والعيش بطراز آخر ليس خيارا ضمن تلك المنظومة الديمقراطية التي ثارت عليها الشعوب ،والأغلبية وإن اختارت العيش بطريقة لا تتفق مع الغرب ومعتقداته وطريقة عيشة ونظام حكمه فإنها تحارب ويشكك في صحة خياراتها ،وتوصف بعدم الوعي ويتمادى بعض المنضبعين بثقافة الغرب وديمقراطيته فيصفون الشعوب بالتخلف والأمية ليفرضوا على الأمة الوصاية، ذلك أن الأمة وحسب منطقهم الغريب الشاذ....أغلبية "غير ديمقراطية " .
إلا أن مصطلح الأغلبية غير الديمقراطية الذي تفتقت عن أذهان تلك الأقلية المتنفذة يضع النقاط على الحروف إن أُخذ على محمل الجد من ناحية فكرية ولم يبق في إطار الأعذار الواهية التي تقدم لتغيير خيارات الأغلبية والالتفاف عليها  وتكبيل إرادة الشعوب ومنعها من العيش بالطريقة التي تريد .
 فالمصطلح يوضح معالم الصراع الحقيقي ، فالأغلبية غير الديمقراطية لا تدين حقا بالديمقراطية ،ولا تريد أن تعيش في ظل نظام ديمقراطي يستنسخ النظام الذي ثارت عليه ، ولا ترغب في المحافظة على نفوذ الغرب  وفلوله وشركاته الرأسمالية التي تنهب ثروات البلاد وتستعبد أهل البلاد  .
فأهل البلاد الذين يشكلون " الأغلبية غير الديمقراطية " لا يرون في الديمقراطية الغربية الوحشية  نموذجا إنسانيا يحتذى ،ولا يرون في الأنظمة الديمقراطية التى ثاروا عليها إلا الظلم والتبعية والفقر والذل والمهانة ، ولا يرون في الأقلية الديمقراطية إلا مجموعة من فلول الأنظمة السابقة والمعتاشين على تمويل الغرب والمرتبطين بتنفيذ خططه ومؤامراته التي تضمن مصالحه ونفوذه في بلادنا.
وتلك الأقلية تضم في ثناياها كل  المضللين والمضبوعين بثقافة الغرب والمنسلخين عن أمتهم وثقافتها وكل اولئك الخائفين من التغيير من "المعتدلين" ،أو من ينتظرون الخيانة للغرب ليصلوا على دباباته ليحكموا تلك الشعوب التي إن اختارت ما تريد أصبحت تسمى ..."أغلبية غير ديمقراطية " .
لكن تلك الأغلبية تحركت وانتفضت ومازالت تنهض ،وينزل شبابها إلى ميادين التحرير ليعيدوا صياغة عالمهم غير الديمقراطي في دولة واحدة ..دولة الخلافة التي ستحكمهم بأحكام غير ديمقراطية ، أحكام منبثقة من عقيدتهم التي آمنوا بها وتربوا عليها بشريعة وأنظمة سامية تلقتها الامة من نبي أمي  لا ينطق عن هوى بشر أو ثقافات شيطانية استبدادية بل هو وحي من الخالق العلي القدير.
وحي نزل للبشرية بأنظمة بعيدة عن الشهوات والنزوات والتخبط والمادية والتسلط والقهر والظلم ،فطبقت تلك الأنظمة على مدى عقود عاشت فيها الإنسانية أبهى عصورها في ظل حكم الإسلام العادل الذي ضمن لكل مواطنيه بغض النظر عن أديانهم العدل والأمن والرفاهية والعيش الكريم ، وما لم تقام تلك الدولة الواحدة الموحدة لآمال الأمة الثائرة ويصاغ ذلك العالم الذي ينزل شباب الأمة إلى ميادين التحرير لصنعه ..فالأغلبية ستبقى دوما غير ديمقراطية...والثورة يجب أن تستمر .
د.مصعب ابو عرقوب
19-10-2012

الاثنين، 15 أكتوبر 2012

الغوغائية العالمية.. و الثورات


الغوغائية العالمية.. و الثورات

     د.مصعب ابو عرقوب


وقفت وزيرة الخارجية الأمريكية لتلقي ما يشبه الأوامر على " الزعماء الجدد" في دول الربيع العربي، فقالت بلهجة السيد الآمر "إن على زعماء مصر وليبيا واليمن وتونس أن يبذلوا قصارى جهدهم لاستعادة الهدوء ورفض استبداد الغوغاء" ، والغوغاء كلمة يصف بها مفكرو الغرب ونخبهم في معظم الأحيان الشعوب الثائرة ، فقد نقل المفكر الايرلندي الشهير أدموند بيرك عن الثائر الفرنسي قوله: "إن الغوغاء تملأ الشوارع ، علي أن أكتشف إلى أين ستتجه لأني أنا القائد"، ولا يعد تناقض بيرك في مهاجمته للثورة الفرنسية وتأييده للثورة الأمريكية اقل تناقضا من تصريحات كلينتون وسلوك الولايات المتحدة الأمريكية .
 وتظهر جذور ذلك الفكر وتلك العقلية في التعامل مع الجماهير في فكر بيرك  الذي ينعكس في تصرفات وتصريحات كلينتون وغيرها من قادة الغرب  فقد كان بيرك يرى  أن "مطالب الشعب إذا توافقت مع استمرار الحكم والدستور والقانون ومبادئ العدالة والعقل تصبح بمثابة قوانين تقيد الطبقة الحاكمة" ويبدو جليا من هذه الأفكار أن مطالب الشعوب إن لم تتوافق مع "استمرار الحكم والدستور" فإن الشعوب الثائرة يمكن أن يطلق عليها "الغوغاء".
فالشعوب الثائرة ...غوغاء  إن لم تحافظ على مصالح الدول الرأسمالية وقيمها المادية ومنظومة الحكم والدساتير والقوانين  التي تضمن تسلط الرأسمالية الإستعمارية وشركاتها المتوحشة  العابرة للقارات وتبعية الأنظمة الحاكمة في بلادنا وموالاتها للغرب الرأسمالي، فالثوار إن تعدوا حدود تلك التبعية وطالبوا بأسلوب عيش يختلف عن الرأسمالية والديمقراطية، أو هبوا للدفاع عن قيم روحية عقائدية لا تعترف بها الرأسمالية المادية   ...الثوار حينها وفي نظرهم  غوغاء مستبدون .
غوغائية واستبداد دعت كلينتون الزعماء الجدد في دول الربيع العربي للوقوف أمامها ورفضها،  إلا أنها ومع إدانتها للفلم المسيء للإسلام  ووصفها إياه "بالفيلم المقرف والمدان الذي يبدو أن هدفه السخرية الشديدة والإساءة إلى دين عظيم وإثارة الغضب، إلا أنها مع ذلك أضافت أن "الإدارة الأمريكية لا تستطيع السيطرة على إنتاج الشرائط المسيئة أو بثها على مواقع مختلفة على شبكة الإنترنت..، لا سيما أن حرية التعبير من القيم الأساسية في المجتمع الأمريكي".وقد شاركها الرئيس الأمريكي اوباما في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الإدانة بوصفه للفلم بأنه "شريط فيديو فجّ ومثير للاشمئزاز وعلى نفس المنوال أضاف "إنني أعرف أن هناك بعض الذين يتساءلون لماذا لا يمكننا مجرد حظر عرض هذا الفيديو. الجواب على ذلك مكرس في قوانيننا: دستورنا يحمي الحق في ممارسة حرية التعبير."

وحرية التعبير... قيمة عظمية لدى الولايات المتحدة الأمريكية  !!، والإدارة الأمريكية إذ تحمي "الأفلام المقرفة والمدانة" "الفجة والمثيرة للاشمئزاز"  ولا تستطيع السيطرة عليها فإن ذلك يأتي تحت ذريعة احترام قيمها المزعومة والحرص على عدم تجاوزها ، إلا أنها وفي نفس الوقت تطلب من "الزعماء الجدد" في دول الربيع العربي أن يسيطروا على شعوبهم الثائرة التي خرجت من أجل الدفاع عن قيمها الحضارية والروحية التي يسيء لها الفلم المدان، في تناقض واضح "فج" كثرت أمثاله في تصريحاتهم ...فكيف لدولة لا تستطيع أن توقف فلما تدينه متذرعة بالحفاظ على قيم مزعومة أن تطلب من أمة كاملة أن تتوقف عن محاولة التصدي لهجوم على قيمها وحضارتها؟ ، فهل للولايات المتحدة الأمريكية الحق في الدفاع عن قيمها "المزعومة " ولا حق لأمة أخرى أن تثور للدفاع عن قيمها !!.
والدفاع عن "حرية التعبير" التي تقف حارسا لتلك الأفلام "المقرفة والمدانة"هي مهمة الدولة التي "تحمي الدساتير"  كما أكد اوباما، فخرج الفلم تحت رعايتها وحمايتها،  لكن المفارقة تكمن في أن  الشعوب التي ثارت لا تجد لها دولة تحمي قيمها أو تذود عنها عوضا عن نشرها والدعوة لها، فأتت ردودها عفوية "غير منظمة" على مستوى دولة كالدولة الأولى التي تنظم ردودها وتحمي قيمها وتعمل على نشرها في العالم بطرق "منظمة جدا" لا مجال فيها ....للرحمة.
فالفلم وإن عكس سلوكا "غوغائيا" فإنه لا يمثل إلا نزرا يسيرا من منظومة القيم المادية التي تحميها الدول الرأسمالية المتوحشة وتعمل على نشرها في أنحاء العالم لضمان سيطرتها ونفوذها وحماية مصالحها على حساب الشعوب المظلومة ودماء المساكين والفقراء والمعذبين الذين يكابدون ضنك العيش برسم الخصخصة والعولمة ونشر الديمقراطية و فتح الأسواق وتحرير المرأة، وغيرها من القيم التي نشرتها بطرق أقل ما يقال عنها أنها  "غوغائية".
والغوغاء عند العرب "الجراد حين يخف للطيران"، واستعير للسَّفلةِ من الناسِ والمُتَسَرِّعين إلى الشرِّ ، وصف وان كان قبل ظهور الطائرات بدون طيار التي تنشر القتل والتدمير في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال وغيرها من الدول التي تعاني ويلات الغوغائية الأمريكية...  إلا أنه وصف قد يختزل سلوك الرأسمالية عبر عقود من الزمان استبدت فيها وتسلطت على رقاب الإنسانية في مسلسل من الجرائم والحروب لا ينتهي.
فقد جاب جراد الرأسمالية الجشع العالم نهبا وسلبا وقتلا وتدميرا، وإشاعة للرذيلة والشذوذ الجنسي والاتجار بالبشر واستغلالا للأطفال كعمال بقوت يومهم في مناجم الشركات الرأسمالية، جاء ذلك في ظل تطبيق عملي لمادية ذلك المبدأ الذي جعل من كل شيء سلعة اقتصادية تباع وتشترى، فلا قيمة  للبشر والشعوب في قاموس ذلك المبدأ، وإن قضوا بالملايين تحت قنابلهم الذرية في هيروشيما وناكازاكي أو نتيجة لتجاربهم العلمية على البشر، أو لقنابلهم العنقودية في فيتنام وغيرها من الدول التي ذاقت مرارة الغوغائية الأمريكية والاستعمارية الغربية، التي أبادت الآلاف  في الهند وإفريقيا واستعبدت الملايين  لتزود مصانعها بالمواد الخام وتسيطر على الموارد الطبيعية لتلك الشعوب الضعيفة .
شعوب كاملة عبر العالم ذاقت ويلات الحروب الأهلية والقتل والتعذيب والإبادة نتيجة تنفذ سفراء الولايات المتحدة الأمريكية  ووكالة استخباراتها وتدخلها لتغيير حاكم هناك يخدمها ويذود عن مصالحها، ليعمل وكيلا لشركاتها وسمسارا دنيئا على ثروات بلده ومقدراتها، كل ذلك وأكثر ذاقته شعوب أمريكا اللاتينية وإفريقيا وشعوبنا  تحت شعارات نشر القيم "الديمقراطية ..وحق تقرير المصير"، لتصل في قمة غوغائيتها إلى احتلال مباشر لأفغانستان والعراق، فلم تعد بعد ذلك الإرهاب والقتل والتدمير  أخبار وصور معتقلاتها السرية والطائرة وغوغائية جيوشها وسجانيها في أبو غريب وغوانتاناموا وسلوكهم المشين يشكل أي خدش للقيم الأمريكية أو الأوروبية  التي تعودت على إهانة الشعوب وسحق البشر ومهاجمة كل القيم والنظر بعنصرية مقيتة لكل من لا يشاركها قيمها المادية المتوحشة،
عنصرية أعمت أبصار القادة في الغرب عن تلمس ذلك الفارق بين الحضارة والغوغائية بين الرقي والمادية بين التضحية والانتهازية بين الإنسانية والوحشية، بين الإسلام الرحيم والرأسمالية المتوحشة، بين القيم السامية  والشذوذ، فالشعوب التي انتفضت واحتجت لقيم روحية أرقى من تلك الدول و شركاتها وذلك الجراد المنتشر .
 فالأمة الإسلامية أمة متحضرة خرج غنيها وفقيرها للدفاع عن قيم روحانية عقدية، ولم يخرجوا من أجل النفط والشهوات والنزوات المادية العنصرية التي تقدس الأنانية و الفردية على حساب صلاح المجتمع ورقيه الروحي، فأي فكر وأي حضارة تلك التي تخرج الملايين عبر العالم من أجل قيمة "عقدية روحية" غير الحضارة الإسلامية. وأي أمة تلك التي تتحرك وتنتفض لقيمها غير الأمة الإسلامية ؟.
 فالشعوب الثائرة افتقرت لحاكم يثأر لها من الغوغائية، فحكامها وكلاء للغوغائية العالمية أو خائفون منها، لكن الأمة الإسلامية إذ تشق طريقها الآن عبر ميادين التحرير لتضع قيمها ومشروعها الحضاري موضع التطبيق، تسير وبخطى ثابتة  نحو عدل الإسلام ورحمته مقابل مادية الرأسمالية وتوحشها، لتنقذ البشرية من غوغائية الرأسمالية وتغول جرادها المنتشر في أصقاع الدنيا .. وتقلع جذور الغوغائية من بلادنا لتعود بذلك خير أمة أخرجت للناس تحمل العدل والروحانية التي تطمئن لها النفوس رسالة للبشرية المعذبة.
وإلى أن يطير الجراد من بلادنا، وتقام دولتنا التي تحمي عقائدنا وقيمنا وتعمل على نشر الرحمة والإنسانية والعدل في العالم كله...إلى أن تقام الخلافة الراشدة الموحدة لجهود الأمة وطاقتها..إلى ذلك اليوم سيظل واجبا على الأمة أن تنتفض... وعلى الثورة أن تستمر.
12-10-2012
د.مصعب أبو عرقوب