الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

القدس في ليلة القدر


القدس في ليلة القدر

د.مصعب أبو عرقوب

كانت أكفهم مضمدة فقد تسوروا الجدار ونزلوا بسرعة عبر الحبال قبل أن تدركهم دورية الاحتلال، التقوا في ساحات المسجد الأقصى بآخرين تسللوا إلى مستوطنة قريبة وركبوا حافلات المحتلين المتجهة للبلدة القديمة...كانت مخاطرة كبيرة ..ماذا لو أمسكوا بكم؟ ..ضحك أحدهم وأجاب لن يفعلوا شيئا وبلهجته الجنوبية الخشنة أردف مستنكرا " الدار دار أبونا وجاء الغرباء ليطردونا"؟؟؟.
في القدس لكل شئ طابع ونكهة خاصة, فالمخاطرة و المعاناة للوصول للحرم لها لذة عجيبة رغم الجراح و وعورة الجبال وقسوة الاحتلال.
دخل المغرب والكل يسأل ..كيف دخلت؟ من أي جهة تسللت؟ لتطير الإجابة عبر الهواتف لآخرين ما فتئوا يتصلون ويسألون ...كيف السبيل لدخول الحرم ...كيف السبيل؟؟؟.

وتبدو الساحات حزينة ترتقب الزائرين...يفطر الصائمون وتجول أعينهم في المساحات الخالية..أين أهل الخليل ؟؟ هل منعتهم الحواجز؟؟ وما بال أهل نابلس وجنين تأخروا ... اين المسلمون ..اين الفاتحون ؟؟؟.
تحدق عيون الحاضرين في جنود الاحتلال على الأبواب والأسوار وتخالهم يضحكون يستهزؤون يشمتون لرؤية القدس وحيدة منسية خالية في ليلة قدر قدسية..... وفجأة وبدون مقدمات يظهرون... من الأبواب يدخلون زمرا شباب منهكون ..ثيابهم ملطخة بالتراب والوحل ..من الجري والقفز والمطاردة متعبون..لكنهم في عيون القدس والحاضرين جميلون أنيقون عطرون ففي القدس لكل شئ طابع ونكهة خاصة.

رفع أذان العشاء لتتراص الصفوف وتزدحم الساحات وتعم الفرحة فإن للزحام هنا أيضا بهجة وطابع ونكهة خاصة, وقبل أن يكبر الإمام ترمق الجموع جنود الاحتلال بنظرة كبرياء ...ها قد امتلأت الساحات.....محمد لم يخلف بنات، فالكل هنا ما زال يذكر يوم سقطت القدس رقص المحتلين وغنائهم ...محمد مات مات ...خلف ورائه بنات.!!!!

تصلى التراويح... ويعتلي المصاطب دعاة لا يخافون سلطانا ولا سطوة حاكم .. يذكرون الأمة بماض تليد يطلقون آهات من أعماق أعماق القلوب على حاضر ذليل .. يبكون ويُيكون .... أمتهم يستصرخون وأهل قوة وعزم ومروءة يستنصرون علهم بعد طول أمد يستفيقون قبل إن تأتي ليلة قدر ...أقصى فيها قد لا يجدون.

يأتي وقت السحور فتساق نحو الأبواب لتشرب القهوة عند الجالية الإفريقية أو السحلب عند الأفغانية جاليات مغربية وكردية وهندية تأخذك لتلك الأيام الكريمة أيام السلطان الناصر استجلبهم من أصقاع الدولة الإسلامية ليطوقوا المسجد الأقصى ويحموه .....تخرج من التاريخ على صوت صلاة الوتر والدعاء..... يؤمن المصلون خلف الإمام بنغمة لازمة ..آمين..آمين...إلى أن يبدأ الإمام بالدعوة للقدس والمسجد الأقصى بالتحرير ولفلسطين بعمر أو صلاح ..فتتغير النغمة اللازمة لتصبح عويلا وبكاء واستصراخا وجأرا إلى الله وكأنك وسط مظاهرة مليونية من تلك التي تنطلق في مواسم المذابح في العواصم العربية,.... وكلما ألح الإمام بالدعاء للمجاهدين في العراق والصومال وأفغانستان بالنصر والتمكين ازدادت النغمة حدة وانتشارا...آمين... آمين ..آمين.

يصلى الفجر وتخرج لتجد الأحذية مكدسة أمام الأبواب جاهزة للمعركة القادمة ،معركة التطبيع، فهي السلاح كانت وما زالت في وجه المغتصبين والمطبعين والبائعين والمتخاذلين ..... في القدس حتى الأحذية لها احترام خاص.
يخرج المصلون وتوزع عليهم الأكياس الفارغة ويبدأ الجميع بتنظيف ساحات المسجد الأقصى.. هنا لا وجود لراعي ولا دولة ...هنا الكل خدم للقدس ومسجدها ..هنا تشعر بنشوة الخضوع والخدمة هنا... لكل شئ طابع خاص....... هنا القدس.

تغسل الساحات وتشرق الشمس وللقدس عبق صباحي ساحر يمتزج فيه التاريخ والأحداث والإسراء والنصر والتكبير والتهليل و دم الشهداء برائحة الحجارة القديمة بالصمت، بصوت خطى الجموع تدب بانتظام في أزقة البلدة العتيقة وشوارعها .....
تسير في ذلك العالم البديع، وتنسى بعد تلك الليلة الروحانية ...أنك ستراهم.... سترى جنود الاحتلال مدججين بالسلاح واقفين بالأبواب.... لكنهم خارجون عن النص." مارون بين الكلمات العابرة". ضعفاء لا يخيفون... حتى صبيا .. صلى ودعى في ليلة قدر عليهم وتمنى على الله أن ترتقي الأمة وتستشعر بعض ما يعانيه أهل فلسطين و القدس وأن تتذوق طعم التحدي وتسلق الجدران ...فتحطم جدران سايكس بيكو وتتوحد .. ويتأنق رجالها بلباس المعركة ويتجملون بحمل أسلحة لطالما كدست ولم تحترم لتعيش الأمة بهجة الزحام في ساحات الاقصى وتنتشي لكنس الظلام وعصرهم البائد ... تلك دعوة لا بد أن تستجاب فهي.......................... دعوة القدس في ليلة القدر.

ثبوت الرؤية السياسية


ثبوت الرؤية السياسية

د.مصعب أبو عرقوب

بدء رمضان بثبوت الرؤية الشرعية لهلاله وارتبط المسلمون حول العالم بحركة الكون وسير الكواكب ليغيروا سلوكهم اليومي تغييرا انقلابيا وبدون مقدمات أو تدرج فلا أكل ولا شرب, وإقلاع مفاجئ عن التدخين وضبط دقيق لإيقاع الحياة ، فالامتناع عن الأكل قانون صارم إلى أن تشق المآذن الصمت معلنة موعد الإفطار.

فتصوم امة كاملة، تصلي التراويح وتتبادل التهاني تجتمع في المساجد وتزور الأرحام وترتل القران في انسجام بديع بين الكون و الأمة امتثالا لأمر الله بالصيام وتحديد بدئه بقول الرسول الكريم" صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته".

و في انصياع تام للرؤية الشرعية تتوحد الأمة الإسلامية في أدق تفاصيل الحياة اليومية وتنتظم في تأدية فريضة واحدة غير حافلة بحدود مصطنعة أو حسابات إقليمية ضيقة الأفق أو فصائلية مخجلة، فصامت رام الله وغزة ولم يؤجل رمضان لما بعد حوار القاهرة أو إطلاق سراح المعتقلين من الطرفين كما لم يلغى الصيام بحجة ضعف مناعة الأجسام أمام انفلونزا الخنازير أو خوفا من انخفاض الإنتاجية في ظل الأزمة الاقتصادية. وتصوم الأمة رغم الحصار في غزة والتفجيرات وانعدام الأمن في بغداد ولم تفطر تحت القصف في أفغانستان والصومال أو الاقتتال في صعدة.

لم تستطع كل تلك الحسابات منع امة من الانصهار في بوتقة واحدة والعيش في منظومة سلوكية انعدم نظيرها في ظل عالم مادي بعيد كل البعد عن القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية.وبالرغم من كل الحملات التي تشن على وحدة الأمة وثقافتها وحضارتها إلى أن الحدث الرمضاني في عالميته يشكل برهانا على أن المعركة لم تنتهي بعد وان الأمة وان هزمت ماديا فإنها لم تهزم فكريا ولم تنل الهجمات الدعائية والإعلامية من القناعات المتجذرة في عقول أبنائها.

فالإسلام كمنهج حياة لا يقتصر في توحيد الأمة على الرؤية الشرعية لهلال رمضان بل يمتلك رؤية شاملة للحياة ورؤية سياسية لحل القضايا المصيرية للأمة يصعب إقناع المسلمين بغيرها وان حاول البعض تضليلهم وإخضاعها لبعض الحسابات الإقليمية أو المصلحية ,فالقضية الفلسطينية لم تراوح مكانها عقودا لقلة المبادرات

أو التمويل أو المؤتمرات أو الخرائط وستبقى تراوح مكانها لان أهل البلاد لم تثبت عندهم الرؤية الشرعية في تلك الحلول ويستحيل إقناعهم بغيرها لحل قضيتهم ,فلا يمكن أن تختزل قضية فلسطين بإزالة حاجز هنا أو مستوطنة هناك فارض الإسراء والمعراج تشهد لصلاح الدين تقيده بالرؤية الشرعية للحل رؤية ثابتة في عقول الأمة وصدور أهل فلسطين ثبوت الهلال في رمضان لا تتغير وان افطر المقدسيون في الشوارع أمام بيوتهم التي اخرجوا منها وتسحروا على نشرات أخبار لا تذكرهم ولن تتغير وان مات أطفال غزة تحت الحصار والقصف.

رؤية شرعية للسياسة تنقذ الأمة وتصون أرواح شبابها فلا تسمح بإقامة إمارة في سجن صغير يفتقر لأبسط مقومات الدولة ولا تبيح قتل المسلمين في المساجد في صراع على سيادة منقوصة بل على سيادة لا وجود لها،رحيمة بآلاف المشردين من بيوتهم من اجل عيون الاستعمار في باكستان، رؤية واضحة لا تحتاج لمحكمة القاهرة التي تجرم من مد يد العون للأهل في غزة ,عادلة في من قدم العراق وأفغانستان لقمة سائغة للغرب وجيوشه البربرية ...رؤية تزيل الغموض والتناقض عن تعريف الإرهابي في الصومال وغيرها من بلاد المسلمين هي كذلك لأنها مستمدة من المنظومة الفكرية الراسخة في أعماق الصائمين منبثقة من الشرع الذي لا تختلف عليه الأمة .

صامت الأمة ولم تخضع صيامها لأي حسابات ولعل هلالا آخر يتولد الآن يجمع المسلمين في دولة واحدة فتثبت الرؤية السياسية عند الأمة لتغير سلوكها الحضاري تغييرا انقلابيا شاملا يخرجها من حالة التبعية للغرب والإدمان على الذل و المذابح والاحتلال ونهب الثروات إلى الصيام عن المهانة والإمساك عن الخضوع لتفطر في أوطان ومقدسات محررة على ثروات مستردة وتنطلق للبشرية حاملة نظام عدل ورسالة نور تنقذها من جمود المادية إلى رحمة الإسلام ودفئه... لتنتظم الأرض من جديد في عقد الكون... محكومة بقانون السماء.

.

د.مصعب ابو عرقوب