الجمعة، 15 سبتمبر 2006

الوصلة السياسية

الوصلة السياسية

د.مصعب محمد أبو عرقوب

"مع هذه الوصلة وبعدها نكمل المشوار", تتردد هذه الجملة على أسماعنا يوميا, وهي تعبير عن الوصلة الموسيقية أو الإعلانية في الإذاعة أو التلفاز أو العروض المسرحية كأسلوب لملئ الفراغ وشد الجمهور وتحضيره للعرض الأساسي وخروج البطل ,وتعطي فرصة أخرى للإعداد والظهور بشكل محترف.

والوصلة الكهربائية, وتدعى أحيانا "مجمعة" أو "مطولة" تصل بين طرفين وتجمع وتطول ما عجز الوضع الطبيعي عن وصله وتجميعه وإطالته للوصول للغاية.

أما الوصلة السياسة فعلى هذا المنوال, أسلوب ليس بجديد يستخدمه الأقوياء في وصل ما انقطع وتجميع ما تفرق وتطويل ما قصر عن الوصول للهدف.

فالمشاهد في عالمنا العربي والإسلامي أن العلاقة بين الجماهير والأنظمة قد انقطعت وهي في واد والجماهير في واد آخر,فمشاعر وأفكار و أمال الجماهير تتناقض مع تلك الموجودة عند الأنظمة و النخب الحاكمة التي أصبحت لا تمثل إلا نفسها ...عاجزة عن الالتحام الطبيعي بجماهيرها...وهذا فيه قدح في شرعيتها وخلخلة لأركان حكمها بكل مقاييس العقل وعلم الاجتماع:

فالأصل أن الأنظمة والنخب الحاكمة تعبير صادق عن المحكومين, وفئة اتفق الجميع عليها لتحكمهم بثقافتهم وما اتفقوا عليه من قوانين.

ولتوطيد أركان تلك الأنظمة وإيجاد الشرعية لها , كان لا بد من إعادة الوصل واشعار الناس أنها ممثلة لهم عاملة على تحقيق مطالبهم وطموحاتهم.

وبما أن الوصل الطبيعي مهمة صعبة طويلة لا تتم إلا بتبني أحد الطرفين وجه نظر الآخر, والوضع لا يحتمل التأخير,كان لا بد من استعمال الوصلة السياسية,...فيتم البحث عن جماعة أو حركة أو شخصيات ترى الجماهير فيها ممثلة لها بهمومها وتطلعاتها...تجرى انتخابات وتصل تلك الجماعة أو الحركة أو الشخصيات إلى ما يتوهم انه الحكم, فتشعر الجماهير أنها ممثلة بأناس انتخبتهم بنفسها ومن ثقافتها, وبذلك يحصل الالتحام الاصطناعي بين الحاكم والمحكوم وتتحقق الشرعية للنظام.

والانتخابات في هذه الحالة"ما هي إلا خطوة عملية للخروج من حالة اللاشرعية إلى الشرعية" هذا ما قاله الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة للسستاني في محاولة إقناعه بالانتخابات العراقية,وهي كذلك ما تفاخر به رامسفيلد على انه "إنجاز كبير" في أفغانستان.

وتستمر الوصلة بلعب دورها المرسوم مع هامش من الحرية لاقناع الناس انهم لم يخطئوا الاختيار,ما لم تطرا أحداث تفرض عليها الوقوف فعليا مع من انتخبوها لتحقيق مطالبهم و آمالهم, هنا يدرك الجميع أنها غير قادرة على تغير الحال ...فما هي إلا وصلة‍‍‍‍‍‍‍‍!!

هنا يبقى مصير الوصلة محرجا وقاتما, فهي أما إلى الاحتراق تحت ضغط تيارين مختلفين, أو الانحياز لتيار النخبة الحاكمة فتفقد بذلك شعبيتها وتنتحر سياسيا, أو الرجوع للجماهير والانحياز لهم ولكن بعد إخفاق في تحقيق نظرياتها في الإصلاح وتبني مصالح الناس, أو وهو الحل الوسط أن تلعب دور "المجمعة" والموحدة لتيارات متناقضة على شكل "وحدة وطنية" لتحافظ على وجودها في السلطة بأقل الخسائر وهي بذلك تفقد تميزها ومبد أيتها.

أما الأنظمة والنخب الحاكمة فهي الرابحة في هذه الحالة, فهي قد استعادت شرعيتها من ناحية, وحرقت الوصلة سياسيا من ناحية أخرى , وبرهنت على أن غيرها لا يملك مشروعا للنهضة والتغيير عند إتاحة الفرصة له بل شعارات غير قابلة للتطبيق, وبذلك تفقد الجماهير الثقة بالتغيير.

إلا أن الأنظمة ومن يقف ورائها تدرك أن هذا الوصل مؤقت والوصل الطبيعي يحتاج لعملية صهريه مضنية لتغيير مفاهيم وقناعات الجماهير بثقافة تخدم مصالحهم وتوطد أركان عروشهم,وهو ما قد بدؤوا به فعليا تحت مسمى " حرب الأفكار".

وهذه العملية الصهرية أو حرب الأفكار هي التحول التاريخي و"التحولات التاريخية تحدث ببطء شديد" ,وهو ما ليس في صالح تلك الثقافة المراد فرضها على شعوبنا ...فقد أسقطت مفاهيمها علينا في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان وأبو غريب وغوانتينامو وبانت على حقيقتها, فضلا على أن الوصل عند العرب وجه من وجوه العشق و أصحاب تلك الثقافة المراد لنا أن نؤمن بها,أنفسهم يسألون ليل نهار " لماذا يكرهوننا؟؟ ".

وما استخدامهم للوصلات السياسة هنا وهناك إلا إقرار بفشلهم في فرض ثقافتهم, ومحاولة لعرقلة ذلك التحول التاريخي الذي توصل الأمة فيه- من تشعر انه يمثلها وينبض بثقافتها ويعبر عن ما يجيش في صدرها وعمل جاهدا على إحياء تلك الثقافة فيها, ولم يرض يوما أن يكون "مجرد وصلة"- توصله إلى عرش حكمها .

عندها يحدث التغيير الحقيقي, وتتفجر طاقات الأمة لتنهض وتضحي

فهي حينها قد حكمت نفسها بنفسها...بدون أي وصلة.

15/09/2006