الجمعة، 20 مارس 2009

عكا والقدس...والرسالة قصيرة


عكا و القدس والرسالة ...قصيرة
د.مصعب محمد أبو عرقوب

"يا مولانا لا تخضع لهؤلاء الملاعين، الذين قد أبوا عليك الإجابة إلى ما دعوتهم فينا، فإنا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا، وبالله المستعان‏ "، كانت تلك رسالة أهل عكا للسلطان صلاح الدين وقد علموا أن شرط ملوك فرنسا وانجلترا وألمانيا لإطلاق سراحهم بعد سقوط مدينتهم هو تسليم القدس, وفي كتابه البداية والنهاية يواصل ابن كثير سرد تلك الواقعة والثمن الذي دفعه أهل عكا فيقول " أبرزت الفرنجة خيامهم إلى ظاهر البلد، واحضروا ثلاثة ألاف من المسلمين فأوقفوهم بعد العصر، وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم في صعيد واحد، رحمهم الله وأكرم مثواهم " .
قد تتغير معالم البلدة القديمة في القدس نتيجة خطة بتكلفة 600مليون شيكل وقد يقام مبنى كبير في ساحة البراق ليستخدم كمركز للشرطة الإسرائيلية، وقد تبنى آلاف الوحدات السكنية في مستوطنة جيلو لتصاحب عمليات هدم بيوت المقدسيين وتوزيع إخطارات بترحيل سكان عشرات المنازل ونبش عظام الصحابة في مقبرة مأمن الله وقد تصبر أم كامل في خيمتها ويهدم آخرون بيوتهم بأيدهم كما فعل شريف عطوان الذي هدم بيته بنفسه لعدم قدرته على تسديد رسوم الهدم, وقد تنصب آلاف الخيام المقدسية, وقد يضيع البعض بحثا عن خارطة الطريق ويموت آخرون تحت الحصار وقد تأتي حكومة وفاق أو تكنوقراط قد يختلفون في القاهرة أو قد يتقاسمون وقد يتحاورون وقد يريحون أو... يستريحون .
قد يحصل ذلك وأكثر لكن الذي لن يتغير هو تلك الرسالة وذلك الصمود الذي يتجسد يوميا في حياة المقدسيين ليتسرب لأدق تفصيلات الحياة لأهل فلسطين, في وقوفهم أمام الحواجز, في صبر أمهات المعتقلين, في أقبية التحقيق في سجون المسكوبية وعسقلان وبئر السبع وعوفر وفي عيون من يتحسر ألما على استباحة الأقصى وعكا وحيفا في "ثلاثة ألاف من المسلمين" حاصروهم، وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم هذه المرة.... في غزة.
وتبرق الرسالة مرة أخرى من أزقة المخيمات, من قلوب عائلات تنتظر لم الشمل, من أبناء الشهداء، من بين صفوف العمال ساعات الفجر الأولى يخاطرون بحياتهم من اجل لقمة العيش, من أبراش المعتقلين والعالقين بين المعابر، من تحت ركام البيوت في غزة ومن جرحى القنابل الفسفورية، من القابضين على الجمر من القافزين عن الجدار للصلاة في الحرم القدسي ومن تحت باحات الأقصى في المسجد المرواني مكتظا ليلة القدر بمسيرة البيارق من أهل يافا وحيفا وأم النور والجليل والنقب تخرج ذات الرسالة القصيرة لتسطر حقيقة تاريخية وثقافية لا يتجاهلها إلا من يريد أن يتعامل مع هذه القضية من باب إدارة أزمة وليس إيجاد حل جذري لها , فلن يخضع أهل فلسطين ولن يرحلوا ولن يتنازلوا ولن يبيعوا مهما بذلوا في سبيل ذلك من تضحيات وعلى من يريد حلا لهذه القضية أن يدرك هذه الحقيقية.
فأهل القدس وفلسطين يبعثون برسالتهم القصيرة مرة أخرى لمن يحتفلون بالقدس كعاصمة ثقافية لهم، فالأسرى لا ينتظر منهم أن يحرروا أرضا أو يفتحوا حدودا أمام جموع المصلين لتصلي في الأقصى أو للشعراء ليلقوا قصائدهم على شواطئ حيفا فالقدس لها من هؤلاء أن يصمدوا ويضحوا ما داموا أسرى، ولها العيون والبيوت والقلوب لكنها ليست لهم وحدهم هي لأمة ورجال قد تصلهم تلك الرسالة القصيرة، وسورة الإسراء ليست لأهل فلسطين وحدهم, ومسرى نبيهم وقبلتهم الأولى لا تنتظر أموالا لتدفع رسوما لهدم البيوت ولا قرارات من مجلس الأمن أو إدانة للاستيطان من عواصم شاركت في القتل والحصار, بل تنتظر ببساطة من يحررها ويفتح أبوابها، وبالرغم من قصر تلك الرسالة الحية إلا أن صلاح الدين قد عمل بها وحافظ على القدس, وها هي ذات الرسالة تنطلق من جديد صادقة قصيرة تختصر آلاف الكتب والقصائد ومئات المبادرات والقرارات وتتجاوز في صياغتها أدق الاتفاقيات, وببساطة أيضا إذا استطاع أهل فلسطين أن يبعثوا تلك الرسالة بدمائهم وصبرهم فان الأمة لا شك تستطيع أن ترد عليها فأمة هكذا أسراها لن تنتظر طويلا حتى ترد على الرسالة ولن تعدم رجالا كصلاح الدين.
وفي زمان تبحث فيه قيادات وأنظمة عن الشرعية أمام شعوبها، وتًصدُر بحق حكام مذكرات اعتقال أممية، قد تحمل تلك الرسالة عقد الشرعية بين الأمة وبين من يلبي النداء ويرتفع لمستوى تطلعات أمته وآمال شعوبها ويجدد مجدها ويحرر مقدساتها فينال شرعيته ويستحق أن يقال له كما قال أهل عكا لصلاح الدين : يا مولانا.

د.مصعب ابو عرقوب

الأربعاء، 4 مارس 2009

كلنتون وعصفورين بحجر


كلينتون وعصفورين بحجر
د.مصعب ابو عرقوب
وعدت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون " بأن تقوم الولايات المتحدة بجهود دبلوماسية مستمرة بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للاستمرار في الضفة الغربية وغزة وتوفير الأمن والسلام التي تسعى إليهما إسرائيل'' كان ذلك بعد عودة جورج ميتشل من أول مهمة استطلاعية له إلى المنطقة اطمأن فيها على أمن دولة قامت على وعد من بريطانيا فليس غريبا أن تقوم دولة بجانب تلك الدولة على أساس وعد أخر ولكن الوعد هذه المرة من الولايات المتحدة، إلا أن الغريب هذه المرة وصف الدولة الموعودة بالمستقلة والقابلة للاستمرار.
في مقالة بعنوان سقوط حل الدولتين كتب باتريك سيل"إنه لأمر مفروغ منه الآن أن حلّ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عبر قيام دولتَين أصبح ضرباً من الخيال. فالمشروع - هذا إذا كان مشروعاً حقيقياً - ميت تماماً .. حتّى الآن، هناك مساحة أربعين بالمائة من الضفّة الغربية تقوم عليها المستوطنات الإسرائيلية والمناطق العسكرية المقفلة والمحميّات الطبيعية والطرقات المخصصة للإسرائيليين فقط والجدار الفاصل المشيّد في عمق الأراضي الفلسطينية. أما الجزء المتبقي من الضفة فمُقسم بإقامة مئات الحواجز. وقد أصبحت القدس الشرقية العربية، أي قلب فلسطين العربية، مفصولةً بشكل كامل تقريباً عمّا تبقى من الضفّة الغربية بحلقة من المستوطنات اليهودية" هكذا يصف الكاتب البريطاني المتخصص في شؤون الشرق الأوسط الواقع الذي يعيشه أهل فلسطين يوميا أمام الحواجز التي يقف عندها الجميع منتظرا إيماءة بالمرور من أصغر رتبة في جيش الاحتلال, يعيشون تحت سماء تصول وتجول فيها طائرات لا أظنها لأهل فلسطين المحاصرين ببحر تمخر عبابه سفن ليست لهم فهم في العراء لا يملكون شيئا فالأموال لإعادة الإعمار تنتظر إذنا من الرباعية لصرفها أو مؤتمرا ليحدد شروط دفعها وطريقة توزيعها حتى الرواتب تخضع لشروط سياسية وإملاءات أقل ما يقال أنها سيادية، فنوع الحكومة ومدى تقيدها بالاتفاقيات المبرمة يحدد مصير الراتب أو العكس ,وعلى هكذا أرض وتحت هكذا سماء وعلى شواطئ هكذا بحر وفي ظل هكذا اقتصاد لا وجود لاستقلال دولة . إلا أن هيلاري كلينتون تعد بدولة مستقلة وقابلة للاستمرار بمنطق تتضح معالمه من تصريح أخر تبع هذا الوعد حيث قالت سيدة الدبلوماسية الأمريكية في جولتها الأسيوية و أثناء لقائها بطلاب جامعة طوكيو " أن واشنطن تسعى لتجنيد المسلمين في العالم كله للتصدي للمتطرفين", .قد تكون هذه هي الضمانة أو الثمن لاستمرارية الدولة أو حتى بعض الدول ,
فقد جرت الأعراف الدولية على تسمية المجندين لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل بالمرتزقة الذين يتقاضون أجرا على خدماتهم أو دولا وممالك على مقاسهم , وهكذا قد تتصور كلينتون بعبقريتها أنها اصطادت عصفورين بحجر
نجحت في تجنيد نخب حاكمة لحربها و أعطت وعدا بإقامة دولة قد تنفس بعضا من الاحتقان في المنطقة.
بيد ان هذا التصور يبقى خياليا ومضطربا بكل المقاييس فالاعتماد على المرتزقة بلا فائدة وخطير كما يصف ميكافلي في كتابه الشهير الأمير معللا ذلك بقوله "وسبب ذلك أنهم لا يجدون دافعا يدفعهم للبقاء في الميدان سوى الأجور الزهيدة التي لا تجعلهم على استعداد للموت من أجلك, فهم مستعدون أن يكونوا جنودك طالما أنك لن تقوم بحرب, ولكن عندما تبدأ الحرب, فإما أن يفروا أو يرحلوا معا" , وفي عالم بدأت تتهاوى فيه فكرة الدول الإقليمية الضيقة وترسخ في الأذهان عدم فعاليتها وقدرتها على تحقيق آمال شعوبها أو صون كرامتهم أو استعادة حقوقهم فلا جورجيا استعادت أوستيا الجنوبية بارتمائها في أحضان أمريكا ولم تنعم باكستان بالأمن بتحالفها مع واشنطن وتكابد الدول الإفريقية الفقر والجوع وإن استضافت القواعد العسكرية والشركات العابرة للقارات و لم تتحقق نبوءة هونغ كونغ الشرق الأوسط ولم تستطع الممالك الشقيقة إيقاف الرصاص المصبوب على رؤوس إخوانهم في غزة, أمام هذه الحقائق فقدت الأمة التي تريد كلينتون تجنيدها، الثقة بهذه الدول العاجزة وانفصلت في مظاهرات مليونية عن أخر ما يربطها بتلك النخب الحاكمة وأنظمتها وقد تكون التحولات الجذرية قد بدأت في المياه العميقة لتطفو قريبا على السطح حينها قد نشهد فرار البعض أو رحيلهم كما قرر ميكافيلي.
قد يكون أمام السيدة كلينتون المعروفة بإيمانها بالدبلوماسية الشعبية في زيارتها الأخيرة للمنطقة فرصة أن تتيقن أننا لسنا بالعصافير وفلسطين ليست يتيمة , وأمة لها حضارتها وتهيم شوقا للصلاة في قدسها قد سئمت ممالك تقسمها وتمنعها من تحقيق أمالها في التحرر والعيش في ظل دولة واحدة لها الأرض والبحر ويرضى عنها ساكن السماء.

د.مصعب ابو عرقوب